
لم يكن إعلان المتحدث باسم البنتاغون، الكولينيل مايك أندروز يوم أمس، عن إيقاف شحن معدات متصلة بطائرات F-35 إلى تركيا، سوى حلقة جديدة في مسلسل التجاذبات والنزاعات المستمر بين أنقرة وواشنطن. إعلان ربما يرسم محطّة جديدة على خارطة الاصطفافات الإقليمية والدولية، وذلك بعدما اتجهت تركيا لشراء منظومة الصواريخ الروسية المتطورة S400 من موسكو، في سيناريو ظلّت أنقرة تناور خلاله مدة طويلة تجاه حليفها الأطلسي في مشهد تنامت معه العديد من الخلافات بصورة مضطردة، لتأتي صفقة ال S400 تلك حاملة معها تقويضا وتهديدا لمصالح الولايات المتحدة بمجرد وجودها كما ترى القيادة الأميركية.
تاريخ التوتر بين تركيا وأميركا، شهد العديد من التقلبات والمسارات المنحدرة، لذلك، تعد قراءة الأحداث المفصلية في تاريخ العلاقة هامة لفهم أبعاد المشهد بصورة أكثر تفصيلا عن تلك التصريحات الإعلامية التي تخفي أكثر مما تظهر، حيث إن الأزمة الحالية لا تمثل سوى قمة جبل الجليد الذي يحمل في القاع منه تفاصيل مليئة بالخلافات الإستراتيجية.
شاهد تكملة الخبر في الأسفل
بداية التوتر
بالنسبة إلى الجنرالات والسياسيين الأتراك كليهما، كان إدخال تركيا في مقايضة أمريكية مع الاتحاد السوفييتي إبان أزمة الصواريخ الكوبية أمرا مهينا (1)، فليس من المعقول أن تقارن تركيا ببلد صغير في مثل كوبا، لكن الأميركيين نجحوا في إقناع الأتراك أن يكونوا جزءا من المقايضة في نهاية المطاف، حيث أزالت الولايات المتحدة صواريخ جوبيتر القادرة على حمل رؤوس نووية من تركيا استجابة لمطالب موسكو، كجزء من صفقة لإقناع الأخيرة بنزع صواريخها من كوبا، وأسدل الستار على أزمة الصواريخ الكوبية في نهاية المطاف ولكنها خلفت جُرحا في علاقات تركيا مع أميركا يبدو أن الأتراك تواطؤوا على تجاهله بشكل ما.
لكن عدة أشهر فقط كانت كافية لواشنطن لتنكأ الجرح التركي الحديث بكل قوتها حين أن اندلعت أعمال العنف بين القبارصة اليونانيين والأتراك في جزيرة قبرص خلال أحداث أعياد الميلاد الدموية في ديسمبر عام 1963، دافعة الرئيس التركي جمال غورسيل للاستنجاد بنظيره الأمريكي ليندون جونسون للضغط على اليونانيين لإيقاف الاقتتال، محذرا من تدخل عسكري تركي حال فشلت الولايات المتحدة في ذلك، لكن رد جونسون على تركيا كان مفاجئا وصادما، حيث كانت تلك هي المرة الأولى التي تعلن (2) فيها واشنطن صراحة أنها لن تقف خلف تركيا حال دخلت في نزاع ضد اليونان حتى لو تدخل الاتحاد السوفيتي في الصراع، والأكثر من ذلك أنها لن تسمح للقوات الجوية التركية باستخدام ترسانتها من الأسلحة الأمريكية حال انخرطت في هذا الصراع.
جمال غورسيل، الرئيس التركي السابق (مواقع التواصل)
بالنسبة إلى تركيا، لم يكن خطاب جونسون مجرد رسالة عادية تناقش أزمة بين حليفين ولكنه تحول إلى حجر زاوية (3) في السياسة الخارجية التركية بشكل عام وعلاقتها مع الولايات المتحدة بشكل خاص، حيث كانت تلك هي اللحظة الأولى التي تختبر فيها تركيا العواقب الكاملة لسياسة الاعتماد العسكري على حليف أوحد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات، دافعة توجها تركيا جديدا لموازنة محفظتها الدفاعية وكسر جمود علاقتها مع السوفييت، وبعد عقد واحد من الزمان كانت تركيا تغزو قبرص بالفعل محملة بترسانة هجينة بين الأسلحة الغربية والسوفيتية والمحلية غير مبالية بالاعتراض الأمريكي أو الحظر الذي فرضته واشنطن على مبيعات الأسلحة للبلاد في ذلك التوقيت.
لا شك أن المسؤولين الأتراك استحضروا تلك الحوادث مؤخرا في مناورتهم الأخيرة مع واشنطن، فحين أعلنت تركيا للمرة الأولى نيتها الحصول على نظام الدفاع الصاروخي الروسي إس-400، بدا أن تركيا تلعب من جديد نفس لعبتها المعتادة التي دأبت عليها على مدار نصف قرن، فلم يعد من الممكن بالنسبة لأنقرة أن تبقي نفسها رهينة بشكل كامل لمنظومة التسليح الغربية، وفي الوقت نفسه فإنها تعلم أن تلك المناورات لا تأتي بلا عواقب، وكالمعتاد فإن واشنطن اختارت معاقبة تركيا بالطريقة التي اعتادتها أيضا وهي المزيد من الحظر، وفي هذه المرة يبدو أن واشنطن تحاول حرمان تركيا من الحصول على الجيل الأحدث من المقاتلات الأميركية الأكثر تطورا، رغم أن أنقرة تعد شريكا رئيسيا في برنامج تطوير المقاتلة الأحدث منذ تدشينه قبل قرابة 20 عاما، ولديها خطة لاقتناء مائة وحدة من المقاتلة.
ففي الرابع والعشرين من يوليو/تموز الحالي، أقر الكونغرس الأمريكي مسودة قانون يمنع نقل مقاتلات الجيل الخامس إلى تركيا، رغم أن الدفعة الأولى من المقاتلات أصبحت في حوزة أنقرة من الناحية النظرية قبل شهر تقريبا ولكنها بقيت في الولايات المتحدة لاستكمال أغراض تدريب الطيارين الأتراك، وطالب المجلس التشريعي الأميركي وزارة دفاعه بتقديم تقييم لمشاركة تركيا في اتحاد صناعة الطائرة والتأثير المحتمل لاستبعاد أنقرة من الاتحاد، ولم يستجب المشرعون الأميركيون لتحذير وزير دفاعهم جيمس ماتيس أن منع تركيا من الحصول على المقاتلة يمكن أن يهدد سلاسل التوريد والتجميع ومواعيد تسليم الطائرة الأمريكية لمدة تصل إلى عامين لحين الحصول على موردين بدلاء للأجزاء التي تصنعها الشركات التركية.
أثارت الأزمة حرب تصريحات جديدة أضافت المزيد من أسباب الاشتعال للتوتر الكامن بين واشنطن وأنقرة منذ سنوات، توتر يقود العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى (4) لها منذ الحرب القبرصية، حاملا معه دعوات لإعادة النظر في ذلك التحالف طويل الأمد بين الجانبين، فعلى الجانب الأمريكي، يجادل البعض أنه مع نهاية الحرب الباردة، فإن تركيا فقدت دورها الرئيسي في إستراتيجية الأمن الأميركية كحاجز ضد توسع القوة السوفييتية في الشرق الأوسط، أما من المنظور التركي، فإن أنقرة أيقنت مرة بعد أخرى أنها لم يعد بإمكانها الاعتماد على المظلة الأمنية الأميركية بأي حال، والواقع أنه لم يكن بإمكانها ذلك في أي وقت، فباستثناء التحالف المشترك في وجه السوفييت، فإن أمريكا لم تكن يوما ضامنا للمصالح الأمنية التركية، والحقيقة أن أنقرة لم تذق في علاقتها مع واشنطن على مدار تاريخها سوى مرارة الخذلان عاما بعد عام ومرة تلو المرة.